التهيئة الحضرية :
ضد: سلوكيات سلبية لها أثرها في تشويه شوارع مدننا
عندها
كثيرا وهي من المشاكل الصامتة التي لها تأثيرات سلبية في جميع مستخدمي
الطريق دون تأطير وتحديد لماهيتها وحجمها وأسباب حدوثها ومن المسؤول عنها
فتبقى في اللاوعي تؤرق وتؤذي مختفية يصعب إدراكها والتعامل معها. إنها
ظاهرة الشوارع التي شوهتها مشاريع البنى التحتية المختلفة بسبب غياب
التنسيق بين الإدارات الحكومية، فما يكاد مشروع من أعمال الحفر والدفن
ينتهي إلا ويبدأ مشروع آخر! لقد غدت شوارع المدن تستباح كل يوم! من قبل..
المرافق والأجهزة العامة، المقاولون، وحتى السكان بسلوكيات غير مهنية وغير
حضارية.
لقد تُركت الشوارع هملا! دون أن يكون هناك جهة واحدة
مسؤولة عنها، وهكذا لم يعد هناك حرمة للشارع، فالكثيرون يشاركون في تشويهه
حتى ليخيل أن هناك سباقا محموما فيمن يشوهها أكثر! عمليات الحفر والدفن غير
المهني تمارس نهارا جهارا على مدار السنة بجرأة صارخة على الشارع دون حسيب
أو رقيب! المقاولون وعمالهم غير الحرفيين تركوا يعبثون في الشوارع بطريقة
بشعة خالية من المهنية ومستوى أداء متدن في أعمالهم التشويهية عدة شهور دون
مراعاة لمستخدمي الطريق والمعاناة اليومية لهم ودون إفادتهم متى سيبدأ
العمل ومتى يتوقع الانتهاء منه وما الهدف من المشروع.
لقد أصبح هم
أكثر المقاولين قي ظل التسيب الإداري وافتقار المهنية وغياب الإشراف الحرفي
وعدم الالتزام بتطبيق معايير الحصول على ورقة تفيد إنجاز المهمة بأي طريقة
كانت وبأي شكل كان وبأقل تكلفة! ولذا لا يكاد شارع من شوارع المدن يخلو من
النتوءات وتباين في المستوى واللون وكأنها آثار اعتداء حيوانات مفترسة
شرسة على فريسة مقيدة لا حول لها ولا قوة! وهكذا تتغير الشوارع لتصبح مشوهة
مليئة بالمرتفعات والمنخفضات بعدما كانت ملساء ناعمة مستوية تسير فوقها
السيارات بكل يسر وسهولة لا تسمع صوتا أو تحس حركة.
الاعتداء
السافر على الشوارع لا يأتي فقط من عمليات الحفر والدفن العشوائي، ولكن
أيضا من تلك الشاحنات التي لا تتقيد بأصول السلامة فتنفض شيئا من حمولتها
على الشارع ولربما كانت أشياء أثرت في حركة المرور والسلامة أو لعلها أصابت
السيارات والمارة بالأذى. ويكون الأمر أدهى وأمر عندما تكون الحمولة من
مواد يصعب إزالتها فتبقى علامات فارقة في الشارع وسمة من سماته تلازمه إلى
ما شاء الله! وهكذا تتحول شوارع المدن التي صرف عليها الملايين من الريالات
إلى ميدان مفتوح لعبث العابثين يأتون من مرافق وإدارات حكومية متعددة
افتقدت التخطيط والتنسيق، فأكثرها يمارس إدارة الأزمات دون أن يكون هناك
استعدادات مسبقة وخطط واضحة وبرامج مقننة حسب جدول زمني محدد. ومما يؤسف له
أن بعض سكان المدن لم يراعوا حق الطريق ولم يعيروا أي اهتمام لنظافته
فهناك ما لا يستنكف ولا يخجل من رمي المخلفات في الشارع وكأنه جزء من ثقافة
استخدام الشارع على حساب الآخرين واستنزفه حتى لا يعود صالحا لشيء!
لقد
وصل الحال إلى حد لا يمكن السكوت عنه لما فيه من تفريط للحق العام،
فالاعتداء على الشارع الذي هو حق مشاع للجميع هو اعتداء على حقوق سكان
المدينة جميعهم. فالمدينة هي البيت الكبير الذي يضم ساكنيه فهل يعقل أن
يقوم أحدهم بتدمير بيته وعدم المحافظة عليه؟! وهنا يبدر السؤال لماذا
تستباح حرمة الشوارع وليس هناك من يتصدى للحفاظ على حقوقها ويهتم
لشأنها..؟! والجواب ببساطة لأن الناس لا تهتم بالشأن العام ولا يعنيها
وهناك اعتقاد راسخ ألا دخل لهم بالموضوع من أساسه، فهذا متروك
للبيروقراطيات العامة (الأجهزة الحكومية) التي تتفرد بعملية صنع القرار دون
مساءلة ودون الأخذ في الاعتبار الرأي العام المحلي للسكان. ولأن سكان
المدن همشوا ردحا من الزمان ولم يشاركوا في عملية صنع القرار المحلي لم
يتملكوا المكان وأصبح المكان العام بما في ذلك الشوارع خارج ذواتهم لا يمت
لهم بصلة ولم يكن في يوم من الأيام جزءا من منظومة قيمهم، وإذا كان مستوى
العلاقة بين الناس والشوارع على هذا النحو فلم يكن مستغربا أن تكون الشوارع
هملا لا يلقى لها بال ولا يهتم بشأنها.
إن المشكل الحقيقي هو
في عدم وجود هيئة محلية مسؤولة عن إدارة المدينة بكل قطاعاتها تستطيع أن
تخطط وتنفذ وتكون مساءلة من قبل سكان المدينة عن أدائها ومستوى الإنجاز
وتحقيق المصلحة المحلية. إن عدم وجود هيئة محلية ذات استقلال إداري ومالي
هو في واقع الحال غياب للتخطيط الاستراتيجي المحلي وبالتالي عدم وجود تنسيق
بين الجهات التنفيذية. فالوضع الراهن لإدارة المدن مبني على اجتهادات
القطاعات المختلفة وقرارات متفرقة تصل حد التعارض فيما بينها.
وهكذا ترك الباب على مصراعيه في أن يقوم كل مرفق وقطاع بتبني خططه وسياساته
الخاصة بعيدا عن المرافق الأخرى دون مشاورات وتنسيق فيما بينها. وهنا تحدث
الطامة الكبرى حين يبدأ أحد المرافق بمشروع وقد انتهى للتو مرفق آخر من
عمليات الدفن والتسوية. إنها مأساة تعانيها المدن وستستمر طالما ليس هناك
إدارة للمدن ترعى شؤونها وتكون مسؤولة بالكامل عما يجري داخلها.
ومما يزيد الطن بلة هو أن جل قرارات الإدارات المحلية المختلفة مركزية
فيكون التنفيذ دون مراعاة للظروف المحلية, هذا إضافة إلى النظام المالي
العقيم الذي مازال يعتمد على ميزانيات البنود ويشجع على الصرف دون ربطه
بالأداء والنتائج، ما يدفع الأجهزة الحكومية المحلية إلى استعجال تنفيذ
المشاريع والصرف منها قبل انتهاء العام المالي حتى ولو على حساب الجودة.
الأمر ليس مرتبطا بحسن مظهر الشارع وجاذبيته ولا حتى سلامة مستخدميه وحسب،
بل بثقافة متجذرة في مفهوم إدارة المدن واختزالها في تقديم خدمات عامة
بينما هي تتعدى ذلك بكثير. إدارة المدن تعني إدارة سكان المدن لمدينتهم
بحيث تكون قراراتها منسجمة مع متطلباتهم وتطلعاتهم وتحقق مصالحهم. وهذا
يعني أن إدارة المدن مسؤولة ومطالبة بتهيئة الأوضاع والفرص والمناخ العام
لتحقيق هذه المصلحة بمفهومها الواسع ليشمل التنمية المحلية وتحسين مستوى
الاقتصاد المحلي وجعل المدينة أكثر جاذبية للعيش والعمل والاستثمار وزيادة
الإنتاجية، وهنا يظهر من جديد أهمية الحديث عن الشوارع كونها تمثل حصيلة
عملية صنع القرار المحلي في أوضح صورها، وتعكس مستوى الثقافة والتعامل
الجماعي لأنه ملتقى الجميع والمكان الوحيد الذي لا غنى لأي أحد عنه.
ولذا كان الحكم على المستوى الحضاري لأي مدينة هو مستوى شوارعها وسلوكيات مستخدميها.
إن
التشوه الذي أصاب الشوارع هو انعكاس لحالة التشرذم في العمل المحلي وعدم
التنسيق بين البيروقراطيات وتركها دون مساءلة. لقد أدى ذلك إلى خلق نوع من
اللامبالاة وأداء العمل شكليا وإنهائه على الورق دون ربطه بالنتائج. إن
هناك حاجة ماسة إلى إعادة النظر بدور الإدارة المحلية من حيث إنها هيئة
تدير المجتمع المحلي وترعى مصالحه وليس فقط مجموعة من فروع الوزارات
المركزية التي تقوم بتنفيذ التوجيهات الصادرة من الإدارة المركزية من أعلى
إلى أسفل وباتجاه واحد دون التنسيق الأفقي المحلي.
إن المعطيات
الجديدة والمستجدات على الساحة المحلية والدولية تتطلب أسلوبا ورؤية جديدة
في العمل الحكومي المحلي وإدارة مدن حقيقية قي إطار قانوني واضح المعالم
للإدارة المحلية. المطلوب هيئة محلية تٌمنح صلاحيات واسعة لصنع القرار
المحلي تكون مسؤولة من قبل سكان المدينة.
لقد حان الوقت لوقف هذا
التشويه الذي يصيب شوارع مدننا والذي يمثل الجانب المادي من سلبية عملية
صنع القرار المحلي، أما الجانب الاجتماعي فإن ظواهر الفقر والجريمة والتلوث
والمخدرات والإرهاب جميعها شواهد على غياب القرار المحلي والحاجة إلى
إدارة مدن شاملة واضحة الصلاحيات والأدوار، لتصلح شوارعنا ومجتمعاتنا وكل
شيء من حولنا.
تمنياتي لكم بالتوفيق
أستفادة موفقة
توقيع : الأستاذ أسامة زين العابدين