على
الرغم من أننا (معشر الأطباء النفسيين)، يحلو لنا أن نتسرع بالإعلان في
الإذاعة والتليفزيون وكافة وسائل الإعلام، عن أن الاكتئاب (مرض) له (أسبابه
الكيميائية)، ولا يعالج إلاّ بالعقاقير (فقط) او جلسات تنظيم إيقاع المخ
(BST) التي كانت تعرف زمان باسم (جلسات الكهرباء – أو جلسات العلاج بالصدمة
الكهربية (ECT)، وهناك أيضاً من يدّعي علماً ويصرح دون دراية (مفيش حاجة
اسمها إكتئاب، ده ضعف إيمان ولازم يبطل دلع)، أو تلك المدرسة (المضادة للطب
النفسي)، الاجتماعية البحتة التي ترى أن ظروف الحياة وتعقدات البيئة
المحيطة، الصدمات، الفقر، المرض العضوي، كلها تؤدي إلى تعكر كيمياء المخ
العصبية، كما (يتعكر زيت موتور العربية)، أو كما تضع نقطة حبر سوداء في كوب
ماء رائق فيسْوَد لونه، ويقال أن مضادات الاكتئاب (وهذا حقيقي) لها مفعول
السحر في تنقية (زيت موتور العربية )، أو كالشبّه تنقي الماء وتعيده صافياً
مرة أخرى.
لكن لماذا ينتكس إذن مرضى الاكتئاب (لمّا الحكاية كلها
دوا) ولماذا لا يستجيب الكثيرون للعلاج الدوائي (لوحده) أو (خالص). لأن
المسألة معقدة جداً ومركبة للغاية، وليست الأمور في البيضة والفرخة (مين جه
الأول، أو مين جاب مين)، لأن ظروف الحياة وشظفها تؤثر سلباً على كيمياء
المخ العصبية وتربكها كما تؤثر على (اللدونة) وتجعلها (ناشفة)، وكذلك فإن
بعض الناس تكون ظروفهم حلوة تتوفر فيها كل الأشياء لكنهم مكتئبون (بدون سبب
واضح، اللهم إلاّ أن فيه حاجة جو الجمجمة بتعكرّ المزاج وبتقلب حال الدنيا
ومن هنا جاء علاج الاكتئاب بالضحك والفرفشة على رأي (هيثم دبور روّق الD
الدماغ وإعدل الG (الجمجمة) وطبعا كده مش سهل وإلا ما كانش حدّ غُلب).
الإجابة
إذن أنه لا يمكن الفصل بين الاستعداد البيولوجي للإصابة بالاكتئاب، وبين
تأثير ضغوط الحياة على البني آدم من بّره ومن جوّه (داخل مخه يعني)، ولذلك
فلازم ولابدّ أن يعالج المريض من جوّه (بالعقاقير ذات التأثير النفساني،
وليس فقط مضادات الاكتئاب، ومنظمات السيروتونين، لأن المسألة كبيرة وتحتاج
إلى خبرة ودكتور شاطر وأمين، يقيّم المسألة على بعضها ويولّف الدوا المناسب
لسن المريض وأعراضه وظروفه)، كذلك من المهم تطويع البيئة المحيطة ـ قدر
الإمكان ـ فمستحيل طبعاً أن تختار أب غير أبيك، أو تغير طريقة معاملة
والديك لبعضهما البعض فجأة، لكن لازم تغير من نمط حياتك Your life style،
وممكن (تحاول) تغير شغلك، (فالشاب غير المتزوج الحاصل على الدكتوراة
والمضطر للعمل في الخليج، واللي بيلزق استيكرز على كراتين وعلب في مصنع،
لازم يجيله اكتئاب).
فقرة حذفت من طرف الإدارة
طبعاً
المخ هو (محطة الكهرباء الرئيسية التي تنظم المزاج والحياة كلها بحلوها
ومُرّها)، علماء المخ والأعصاب والكيمياء والعقاقير والجزيئات تجمعوا
وتوصلوا إلى أن المسألة ليست مجرد (كيمياء وتتعدّل .. لا)، إنها منظومة
كاملة متكاملة من (الاتصالات العصبية بين خلايا المخ، نموها، وظائفها،
دوائرها )، منظومة لها أكبر الأثر على ظهور مرض الاكتئاب.
ومع ذلك ومع
كل تقدم العلم الحديث المُبهر للغاية؛ فإن الطب النفسي وعلوم المخ
والأعصاب، لم تزل قاصرة عن فهم الحقيقة الكلية للاكتئاب كمرض وكعرض، ومازلت
اجزاء كبيرة منه شديدة الغموض، حيث أنه في أبحاث الدواء يتعاطى
(المكتئبون)، أقراص مجهولة الهوية لمن يفحصونهم، ويتقسمون إلى مجموعتين:
مجموعة تتناول عقاقير مضادة للاكتئاب (مُطمئنة)، وأخرى تتعاطى (نشا وسكر
فيما يسمى حبوب الرضا Placebo) ، ووجد أن نسبة ليست بالهينة تستجيب للاشئ
(يعني للنشا والسكر) ويتحسن مزاجها، والأدهى من ذلك أن بعضهم أصيب بآثار
جانبية لتلك الحبوب الفارغة، إذن المسألة فيها إن وليست مطلقة ولا سهلة.
كذلك،
لماذا يموت بعض الناس فجأة، ولماذا يصحو بعض الناس صباحاً وهم (زي الفل)
(خفّوا) بعد سنوات من (الاكتئاب)، أو امراض أخرى، لماذا يصاب البعض بطنين
الأذن، و(يعني إيه فلان طب ساكت، مات وهو في عز شبابه، كده من غير مرض أو
حادثة؟)، ما هي أسرار الجهاز المناعي، الواقع تحت تأثير الجهاز النفسي
والغدد بقلب المخ؟ أسئلة كثيرة جداً، وإجابات أكثر ندرة.
طبعاً السادة
الباحثون والعلماء، بالكمبيوتر، وبالرنين المغناطيسي وأمور أخرى يصعب شرحها
هنا لتعقدها جداً، صوروا المخ والأعصاب وقاسوا تدفق الدم والحرارة
والجزيئات والذرات وكل حاجة، وأهم حاجة كانت اكتشاف اللدونة العصبية أو
لدونة المخ التي تحدثنا عنها سابقاً، ويبدو أنها اكتشاف واعد، فهي ضمن
تفسيرها لأمور أخرى، ساهمت إلى حدّ كبير في فهم آليات الاكتئاب، ومن ثمّ
فتحت الطريق أمام (طرق علاجية فعالة وربما جديدة)، وقد يكون الحل ـ من وجهة
نظري التخصصية كطبيب نفسي مؤهل من الكلية الملكية للطب النفسي في لندن عام
1983) وبعد 34 سنة من العمل مع مرضى مختلفيين أهمهم مرضى الاكتئاب، وجدت
أن مزج العلاج في توليفة أو Package ، من الدواء المطمئن الذي يعمل في
اتجاه السيروتونين والنورأدرينالين والدواء المنظم لمادة الدوبامين (هذه
الجزئية في العلاج في رأيي العلمي أهم جزئية).
لأهمية مادة الدوبامين (وسأشرح ذلك بالتفصيل فيما بعد)، ولخطورتها في تجديد التفكير وتأثيرها الساحر على المُنظمات العصبية الأخرى.
ثم
يأتي دور العلاج وجهاً لوجه ( الجشطالت Gestalt)، بالحوار، المواجهة،
التحليل، التفسير، الشرح والتأويل والتوضيح، بالاسترخاء الذهني والجسدي،ليس
فقط مجرد التأمل الإيحائي وتمرينات التنفس، ولكن من خلال التنبيه الصوتي
والضوئي AVS مع إعطاء حقنة (أثناء الجلسة تحت الجلد نصف سم فقط) تسمح ببسط
العضلات، تركيز الإنسان هنا على شئ يداعب مخه ولمدة حوالي 20 – 30 دقيقة في
الجلسة الواحدة التي تتكرر لـ 6 – 8 جلسات مع فتح كافة الأمور الحياتية في
العمل والزواج والدين والدنيا بمنتهى الانطلاق والحرية، وإشراك أطراف
أخرى: الزوج، الزوجة، الأبناء، الوالدين، من يهمهم الأمر في البيئة المحيطة
في محاولة لتطويعها مع فن ( السيكودراما) المسرح العلاجي بدون نص مع
آخرين، ولقد وجدت أن هذه الطريقة تحرق مراحل مختلفة في العلاج وتكشف
المستور وتنّور الدنيا وتجعل المريض وجهاً لوجه أمام أعقد مشكلاته.
إذن
ماذا تعني التغيرات داخل المخ تحديداً، ما يسمَّى بالقدرات التكيفية يعني
الإمكانيات للجيش النفسي، يعني القدرة على الصدّ والردّ والالتفاف والهروب
... وهذا يعني بحسب نظريات العلم الحديث أن الإنسان العرضة للاكتئاب، يعاني
من حساسية أو ضعف أو هشاشة بيولوجية (أو كل ذلك)، وكما شرحنا تكوين المخ
سبقاً من: حوالي 100 مليار خلية و10آلاف وصلة عصبية، ويتعرض لعشرات من
الشحنات كهربية المنبهة في الثانية الواحدة، وهذا يجعله (مرناً)، يعني
مزوداً بلدونة استثنائية (أي في حالة تبدّل وتغيير وتعديل مستمرة)، وهذه
عملية تتأثر سلباً وإيجاباً بالمحطات الحياتية، العاطفية، الإنفعالية،
الإدراكية، الصدمية التي يمر بها الإنسان.
هنا ممكن أن نفهم أنه في
حالة (الإكتئاب)، تتراجع قدرات التبدل والتغير والتعديل، بسبب خلل ما في
الأمور الغذائية داخل المخ، مما يؤدي إلى تشوهات وتراجع في نمو النسيج
العصبي فيما يترجم قرن آمون Hippacampus ويؤدي إلى ضمور التشعبات العصبية،
والخلل في منظومة الدماغ، وإلى تقليص أحجام بعض مواقعها إلى نسبة تصل إلى
32% من قشرة المخ Cerebral Cortex و19% من قرن آمون، وترتبط حدّة هذه
الاضطرابات وكمّها بمدة الإكتئاب، وتوقيت ظهور الأعراض واختفائها ومدى تأثر
جهازSystem Limbic بها، مما يؤدي إلى تراجع القدرة على ضبط المزاج، ويفسر
هذه الدور (الانتكاسة) أو ( الإنعطافة: ظهور طفيف للأعراض)، بعد الشفاء
أحياناً.
لذلك نرى أن العلاج الشامل يكون بتزويد جهاز المناعة بمضادات
الأكسدة وغيرها، تزويد وتحرير مادة الأندورفين بنشاط مختلفة منها الرياضة
(الركض)، العلاج المتطور، عال التقنية (كحقنة معينة ، معرف من زمان المكون
الرئيسي لها، لكن تأثيرها بالتكنولوجيا الفائقة، يجعلها مؤثرة للغاية.
كما
أن تحسين مستوى المعيشة ضروري، ليس شرطاً مادياً لكن بمعنى (جودة الحياة)،
واحيناً تكون كبسولات الفيتامينات المختارة، مع الخلايا الجذعية ، مكملاً
ممتازاً في علاج الحالات المستعصية.
كل هذا يعيد إصلاح آليات اللدونة العصبية، ويكسب المريض مناعة ضد أي انتكاسة.
فهمتنا
الأبحاث العميقة والمتطورة، أن هناك مناطق محددة في الدماغ (المخ)، تنظم
المزاج وتعدّل النفس، ترتبط بالذاكرة التي تسوء في حالات الاكتئاب، (ويعتقد
المريض وأهله أنه مصاب بالألزهايمر، ولكننا نسميه اضطراب الذاكرة الزائف،
الناجم عن سوء التركيز وعن الاكتئاب، وليس فقدان أو اضطراب ذاكرة حقيقي،
لأن انسجة المخ وخلاياه تظل كما هي ـ تشريحياً ـ غير أنها وظيفياً تعمل
بشكل سيئ).
أهم تلك المناطق ـ الأميجدالا ( كما الرسم المبين) Amygdala
وهي غدة تشبه اللوزة وفي حجمها، ترتبط بما تحت المهاد Hypothalamus تلك
المحطة المهمة والجهاز العصبي السمبثاوي وبأعصاب الوجه، وتعدّ مسئولة عن
تنشيط كيمياء التفكير ممثلة في مادة الدوبامين والنور أدرينالين و
الأدرينالين المختصين بالطاقة والتوتر. كما أنها تستقبل إشارات حساسة من
الليفة العصبية الخاصة بالشم، ولها علاقة خاصة بالنشاط الجنسي (لاحظ أن
رائحة الجسد والعطور تعدّ مهيجات جنسية)، وثبتت علاقتهما بالعلاج النفسي
بالحوار ومنظمات مادة السيروتينين الخاصة بالمزاج.
كما أن لها علاقة
باضطرابات الشخصية خاصة (السيكوباتية والحدّية Borderline)، كما أن وظائف
الأميجدالا وحجمها ينشط ويتحسن، بتحسن العلاقات الإجتماعية وتشعبها، أي أنه
كلما قلّ انعزال الشخص، وكثرت علاقاته الإجتماعية، وكان له صديق واحد أو
أكثر يفضي إليه بكل أسراره (إنتيم يعني)؛ فإن وظائف (أميجدالته) تكون أحسن
ويكبر حجمها.
وجد أن الإجهاد العصبي والبدني والذهني Stress ، يلعب
دوراً رئيسياً في الاكتئاب من خلال تأثيره على المخ تحديداً ـ كما يعتقد ـ
المهاد وقرن آمون، كما يُعتقد أن الإجهاد يوقف إنتاج خلايا عصبية جديدة،
وهو ما شرحناه سابقاً في مسألة (اللدونة العصبية).