النقد الموضوعي :
يشمل النقد الموضوع
كلَّ نقد يصدر عن دراسة وتمحيص , ويلتزم الناقد فيه منهجاً معيناً , ويطبق
القواعد التي اتفق عليها عدد من النقاد , ويحكم ذوقه وعقله وثقافته الفنية
والعامة في آ ن واحد , ولايستسلم لميوله الخاصة , ولايتحيز , ويدعم أحكامه
بالحجج والبراهين .
ويكون هذا النقد مفصلاً ومعللاً , حيث يحلل الناقد العمل الأدبي و
وينظر في أجزائه كلها ’ ويبين مواطن الإجادة والتقصير في كل مكان منها ,
ويشرح أسباب حكمه عليها بالإجادة أو التقصير , ثم يبنى من الأحكام الجزئية
حكماً عاماً يقوم فيه العمل الأدبي كله .
ويقتضي هذا النوع من النقد أن
تكون لدى الناقد خبرةٌ نقدية كبيرة , تمكنه من التحليل الدقيق والمناقشة ,
وذوق مدرب يساعد على تمييز مستويات الجمال والقبح المختلفة , وثقافة واسعة
تعينه على الموازنة وتطبيق القواعد النقدية .
وتكون أحكام النقاد في النقد الموضوعي
متماثلة أو متقاربة , فلو أعطينا عملاً أدبياً واحداً لمجموعة منهم فنقدوه
, لجاء نقدهم متشابهاً , وإذا ظهرت خلافات بينهم فستكون خلافات محدودة ,
سببها الفروق الدقيقة بين الأذواق . وهنا نذكر النقد الأدبي يختلف
عن العلوم التجريبية (كالرياضيات والفيزياء والكيمياء ... ) وفي أن قواعده
ليست حقائق علمية ثابتة , بل هي حقائق وجدانية , تسمح بوجود فروق محدودة
بين ناقد وآخر .
ولاشك أن النقد الموضوعي نتيجة من نتائج ارتقاء النقد ,
ودليلُ على تقدم حضاري , لأنه يعتمد على الدراسة والتحليل , ويسلك طريق
المناقشة والاحتجاج لكي يقنعنا بأحكامه , وهو الذي يساعد الأدباء على تحسين
إبداعهم , ويسهم في تطوير الأدب , ويرتقي بأذواق القراء .
وإليك نموذجاً من النقد الموضوعي :
قال الآمدي ينقد بيتاً لأبي تمام :
(قوله – أي أبوتمام :
شكوت إلى الزمان نحول جسمي *** فأرشدني إلى عبدالحميد
لوكان
عبد الحميد طبيباً كان يكون معنى البيت مستقيماً , لأن الرجل المعتر
الطالب الجدوى لايشكو نحول جسمه إلى ممدوحه الذي يلتمس الفضل منه , وإنما
يشكو إليه اختلال الحال , وقصور اليد , فأما أن يشكو إليه نحول الجسم فإن
ذلك غايةٌ الخناعة والنذالة والانحطاط في المسألة . إنه يخبره بشدة جوعه ,
وأن ذلك هو الذي أذاب لحمه , وهذا لايقوله شاعر على الوجه ...... ولو كان
قال : شكوت إلى الزمان قصورَ حالٍ , كان أشبه من نحول الجسم الذي قد يكون
من أشياء كثيرة ) .
لقد عاب الآمدي بيت أبي تمام لأن الصورة التي
صوَّر بها نفسه (صورة رجل شديد الهزال , يبحث عمن يعطيه المال) مهينة ,
ولاتنطبق على الشاعر . وكما ترى فقد عاب البيت , وبين سبب رفضه له بالتفصيل
.
وكتب الناقد إبراهم هاشم الفلالي ينقد قصدة لأحد الشعراء الناشئين , ويبين له أخطاءه , فقال : ( يقول الشاعر مخاطباً القمر :
أيها اللاعب ف حضن السماء
أيها الفائض فيها بالرُّواء
أيها الساكب في مد الفضاء
نورك الحالم حلم العقلاء
إن
يد الشاعر الناشئ ترتجف بريشتها , فيختل نظام الألوان , ولاتأتي الصورة
بالمعنى المطلوب , فالقمر لايفيض بالرواء , وإنما الرواء من سمات الأغصان ,
ومن شأن القمر إفاضة النور , ولاتنعت السماء – ليلاً أو نهاراً – بالرواء ,
وإنما تنعت بالصفاء .
وهو حين يقول : " أيها اللاعب " تصور قمراً
يلعب . أما القمر الذي نعرفه فهو يسير في هدوء ووقار , ولم نره مرة واحدة
يلعب كما تلعب النسائم – مثلاً – وهو إذا يسكب نوره يسكبه في الفضاء وغير
الفضاء . ولفظة " مد " هنا مقحمة , لتكملة البيت وصحة الوزن . و"أحلام
العقلاء" لاتتناسب مع نور القمر الحالم ولكنها باحلام الشعراء أليق ...... )
لقد
أخذ الناقد على الشاعر أنه لايتقن صناعة الفنية , فيشبه الأشياء بما
لايناسبها , فقد شبه القمر بالنسيم الذي يلعب , وشبه النور بأحلام العقلاء ,
ووصفية بالليونة وكثرة الماء في داخله , وهذه تشبيهات مضطربة لاتزيد
المعنى شيئاً و ولاتحسَّنه بل قد تسئ إليه أو تفسده .